بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 11 أبريل 2016

يربال محمود شاعيرى كه وره ى هه ولير

يربال محمود شاعيرى كه وره ى هه ولير

بيربال محمود ... في الذكرى الثانية لرحيله
  د. عبدالله حداد 1-2


في الثامن عشر من شهر تشرين الأول، أطلت الذكرى الثانية لرحيل الشاعر المبدع (بيربال محمود) الذي كان أحد أبرز رموز الشعر الكوردي والعربي في مدينة أربيل في النصف الثاني من القرن العشرين، استمر في العطاء والتعامل مع الكلمة الجميلة منذ أن كان شاباً يافعاً في مطلع الخمسينيات من ذلك القرن وحتى آخر يوم من حياته.. وقبل أن تخطفه من يد المنون بفترة وجيزة جداًـ كتبت عنه مقالاً بالكوردية بعنوان : "بيربال محمود.. سبعون عاماً من المعاناة وخمسون عاماً من الابداعات" نشرته في مجلة "نووسه رى نوى/ الكاتب الجديد" إذ كنت آنئذ صاحباً لأمتيازها (1). وكان للمقال المذكور أصداء طيبة في قلوب الأصدقاء والأحبة بصورة خاصة وفي الوسط الأدبي الكوردي بصورة عامة، كما كان له وقع خاص في نفس شاعرنا، إذ تفضل وزارني كعادته رغم أنه كان يئن تحت وطأة الأمراض التي هاجمته، وقال: لقد أصبت كبد الحقيقة في كل كلمة قلتها عني يا صديقي!.. ثم أنطلق على سجيته، تطرق الى عذابات رجال الفكر والأدب والفن الأصلاء منذ عهد (سقراط) وحتى عصرنا هذا، وتحدث عما كابدوه من ظلم وإضطهاد وقمع على يد الجهلة والمهرجين والحمقى والمغفلين وأصحاب الضمائر الميتة وجلاوزة السلاطين وخدمهم وذلك بسبب مواقفهم الانسانية النبيلة وبسبب دفاعهم عن القيم والمبادئ الرفيعة وكذلك بسبب تعبيرهم عن معاناة وهموم الفقراء والمعدمين والبسطاء والطيبين مما كان يشكل خطراً على عروش الطغاة وسلطة الطواغيت... وكان بيربال (رحمه الله) يعزز أقواله بالأمثلة ويسندها بالحكم والكلمات المأثورة والقصائد الشعرية والآيات القرآنية وغيرها.. فقد كان مخزناً لدرر الكلام ومنبعاً من منابع العلم والمعرفة، وكان عندما يجد شيوع المقاييس المفلوجة يقرأ البيتين الشعريين الشهيرين لأبي العلاء المعري: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجــاهلت حتى ظن بأني جاهـل ويا عجبي كم يدعي الفضل جاهل ويا أسفي كم يدعي الجهل فاضل ! *** حاول بعض الطيبين من أصدقائه ومحبيه معاونته في محنته، والوقوف الى جانبه (جزاهم الله خيرا) إلا أن المرض كان قد نهش أنيابه في جسده الضعيف حتى نال منه.. وقبل أيام قليلة من رحيله، جمعتنا الصدفة في مجلس مع الشاعر السيد محي الدين (نه زاد) والصحافي الأخ اسماعيل علي، وبادر هذا الأخير بالتقاط عدد من الصور لنا.. وكانت آخر صور التقطت للشاعر على حد علمي، وكان الأخ اسماعيل قد تنبأ بقرب أجله. بدأت مسيرة بيربال محمود مع الكلمة منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره عندما كان طالبا في المتوسطة، فنشر مقاطع شعرية ونثرية في صحيفة (أربيل/ هه ولير) التي كانت نقابة معلمي أربيل تصدرها باللغتين الكوردية والعربية في الفترة (1950-1953).. وكانت بدايته بالعربية. ثم بدأ بتعميق معرفته باللغة الكوردية ايضاً، واستمر في نشر نتاجاته في الصحف الكوردية والعربية في آن واحد.. وعلى أثر الفيضان الذي إجتاح مدينة السليمانية الحبيبة في عام (1957)، ونجمت عنه أضرار بالغة، بدأت حملة واسعة على المستويين الشعبي والرسمي لأغاثة المنكوبين، وكان لأهل أربيل كما عرف عنهم السبق في مساندة إخوانهم في السليمانية، في تلك الفترة أصدر شاعرنا كاك بيربال كراساً بعنوان: "لا فاو/ الفيضان" تعبيراً عن تعاطفه العميق مع نكبة السليمانية وأهلها، فخصص ريعه لمنكوبي ومتضرري الفيضان. كان آنئذ في الثالثة والعشرين من عمره، ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئاً ليمنحه الى إخوته، سوى تلك الباقة الشعرية، أي أنه قدم لهم أصغريه: لسانه وقلبه كما يقول المثل، ألم يفعل ذلك شاعر العرب الاكبر المرحوم محمد مهدي الجواهري عندما قال في قصيدته الشهيرة: قلبي لكوردستان يهدى والفم ولقد يجود بأصغرييه المعدم ! لقد قلت مرة عن موقف بيربال هذا، أن صنوف النقد الأدبي وضروبه تقفان عاجزة إزاء تلك الوقفة الوطنية والقومية والانسانية النبيلة والتي جاءت لتجسد تفاعله وامتزاجه مع مختلف قضايا شعبه في تلك الحقبة الزمنية من التأريخ. يقتضي المقام هنا أن نشير وبأقتضاب الى تأثر شاعرنا بالتيارات الرومانسية وعلى وجه الخصوص شعراء المهجر وبعض رموز مدرسة أبولو، كما أنه كان متابعاً لنتاجات المجددين كالسياب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة من جهة وعبدالله كوران و أحمد هه ردى وكامه ران وديلان وابراهيم أحمد من جهة ثانية، فضلاً جهوده في التعمق في التراث الشعري الكلاسيكي الكوردي والعربي على حد سواء. وكان له شغف خاص بآثار وسيرة حياة الرومانسيين الأوربيين من خلال الكتب والمطبوعات العربية. الى جانب تأثره العميق بالأجواء السياسية التي كانت سائدة في العراق في خمسينيات القرن الماضي، من ماركسية وقومية وغيرها والتي كانت لها تأثيرات كبيرة في تحريك الشارع وتوجيه الجماهير. وعلى ما يبدو أنه تعرض للاعتقال بتهمة سياسية ثم أطلق سراحه. لقد أصيب شاعرنا بنكسة عاطفية قوية عندما خطف الموت خطيبته التي كان يهيم بها، ولعلها كانت مبعث إلهامه، وتركت هذه الحادثة جرحاً عميقاً في وجدان (بيربال) لفترة طويلة. وقد أهدى اليها ديوان شعره الموسوم بـ "به هه شتى دلداري" فردوس الحب" المطبوع في سنة 1958. ونفهم من إحدى قصائد الديوان أنه فقد تلك الانسانة الجميلة في عام (1953). ونكتشف من خلال الملاحظات التي دونها، إن عدداً من قصائده كان قد تم تلحينها وتقديمها على شكل أغان من قبل أستاذ المقامات (علي مردان) وخبير "الحيران" الكوردي (رسول كه ردى) وغيرهما وكان يجرى إذاعتها من القسم الكوردي في إذاعة بغداد. ومن الجدير بالملاحظة ورود مجموعة من الأسماء والرموز الكلاسيكية اليونانية (الاغريقية) في ثنايا بعض قصائده مثل: (فينوس) و (ئورفيوس) و (أبولو) و (هوميروس) صاحب (الالياذه) و (الأوديسة) .. الى جانب قيام شاعرنا بتزيين بعض صفحات الديوان بلوحات الفنانين الغربيين العظام كلوحة (فينوس) و (كيوبيد) و (حوريات البحر)، وكذلك لوحة (الربيع الجديد) لبوتشللي، و (أبولو ودافى) لـ (برنيني). ولعل التعامل مع تلك الرموز كان يشكل جزءاً من عملية التجديد في تلك المرحلة من وجهة نظر الشاعر. بعد ثورة الرابع عشر من تموز/1958 أصدر الشاعر (بيربال محمود) كراساً شعرياً تحت عنوان (أغاني الثورة) طبع في مطبعة كركوك في مطلع عام 1959، أهداه الى (إبن الوطن البار الزعيم عبدالكريم قاسم)، تغلب على القصائد المنشورة فيه سمة الحماسة ويتخلل نسيجها الشعارات بصورة عامة. يقول في قصيدة عنوانها (14 تموز):
يا بلادي قد مضى عهد الشقاء وأتى عهد السلام والهناء وتوارى الليل في حضن المساء وأنجلى الأفق مليئا بالسناء ورغم طغيان اسلوب الشعاراتية، فأن القصيدة مشحونة بأنفاس وتعبيرات رومانسية. وفي مقطع آخر يقول بشفافية أوضح: يا بلادي، كم فقير، كم يتيم كم ذليل، كم أسير، كم مضيم كم أديب، كم عليم، كم حكيم ذبلوا في قبضة الباغي الأثيم ! إن بيربال محمود شاعر غنائي (ليريكي) والشعراء الغنائيين يعبرون بصورة أفضل عن مكنونات قلوبهم، ويجسدون معاناتهم، فأذاً ليس من الغرابة أن نلمح سماته الشخصية من خلال قصائده. ويستمر الشاعر على ذات الوتيرة فيقول: يا بلادي، لست أرضاً للهوان لست داراًَ للئيم أو جبان لست إلاّ جنة من الجنان وربوعاً للهناء والأمان (3) يمكن التصريح إن القصيدة هي بمثابة نشيد من الاناشيد الوطنية التي يمكن تلحينها ومنحها نبضات جديدة. ويعبر الشاعر في مقطع من قصيدة أخرى عن ذاته بطريقة أخرى: يا رفاقي، لست إلاّ شاعراً دامي الأنين كنت حراً منذ أن كنت وليدا وجنين مثلكم كنت، ولكن كنت من دون معين فلذا تهت، ولكن عدت للركب أمين (4) وثمة قصيدة مهداة الى روح المهندس الشهيد (موسى سليمان) الذي لقي حتفه في السجن برصاص الشرطة في العهد الملكي أثر إضراب قاموا به. وقد نظم كما يصرح الشاعر في السجن، يقول فيها: يا صحابي، هذه الأغلال رمز الأنتصار إنها صوت ضحايانا الكبار والصـغار ويشير الشاعر أن أحفاد الطغاة عاثوا في الأرض فساداً، وأشاعوا الرعب في النفوس.... كبلوا فاه الأديب، أصفدوا شدو الهزار أخمدوا صوت الأبي الحر، ساقوه لنار ألبسوا العالم ثوب الذل، ثوب الأفتقار ذللوا الشبان والشابات من أجل النضار أهملوا التعمير عمداً، ومالوا للدمار وفي الكراس قصيدة مهداة الى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري. ولعل شاعرنا الشاب في تلك المرحلة من حياته، ما كان يتوقع أن تعصف بالبلاد موجات من القمع والاضطهاد والتنكيل في ظل الانقلابات العسكرية، يفوق في حجمها ما كان يجري في العهد الملكي بعشرات المرات وذلك تحت شعارات ويافطات براقة ومزيفة ! كما أن بيربال محمود أصدر في تلك الحقبة من مسيرته الشعرية عدداً من الكراسات الشعرية ، منها : _بزه ى سروشت/ بسمات الطبيعة) و (شبابة الألم)، وهما يضمان قصائد وجدانية وغنائية يغلب عليها طابع الوصف، وخاصة وصف طبيعة كوردستان الخلابة، مما يكشف عن حبه لموطن الآباء والأجداد، الى جانب الاشعار التي يمكن تصنيفها في خانة الشعر الوطني والقومي والاجتماعي وغير ذلك من الاغراض الشعرية، وثمة قصيدة يتقطر منها الحزن قالها في رثاء والده المرحوم محمود ابراهيم. وكان بيربال يتحدث كثيراً عن خصال ذلك الأب الجليل، ولعله كان يشعر بنوع من الذنب لأنه ربما كان يقدره حق تقديره بسبب نزوات الشباب، وعندما فقده أحسن بحجم الكارثة التي حلت بأسرته. بعد إنقلاب الثامن من شباط/1963 والأطاحة بالزعيم عبدالكريم قاسم، كان على بيربال محمود أن يسدد ضريبة مواقفه، وأن يدفع ثمن قصائده التي نظمها في الاشادة بثورة الرابع عشر من تموز والزعيم عبدالكريم، وزج في غياهب السجن شأنه في ذلك شأن الآلاف من الشباب، وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين وفقد وظيفته المتواضعة في رئاسة بلدية أربيل. وقد حدثني أنه كان ينظم في السجن وحتى قبل الحكم عليه أرجوزات واناشيد تندد بالقمع والظلم والطغاة، وكان السجناء ينشدونها على وقع التنكات. ويبدو أن الحاكم العسكري في المحكمة العرفية كان قد أطلع على بعض القصائد العربية لشاعرنا، فعبر له عن إعجابه بموهبته ومعرفته الواسعة باللغة العربية، وقال له: يا بيربال ما دمت تتقن اللغة العربية بطلاقة وتكتب بها، فلماذا لا تزعم بأنك عربي حتى أبرأك من التهم الموجهة اليك وأطلق سراحك وأعيدك الى وظيفتك ! فأجابه بيربال بكل بساطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق